بات عبد الغني مغموراً بالسعادة حين حطت قدماه أرض حانوت الأخشاب بالإسكندرية بعد طول اغتراب، كانت عودته تعني حياة جديدة له ولذويه.. ولعله غفل لثوانٍ عن حقيقة وفاة أبيه عز الدين - المالك الرئيس للحانوت - في لحظة عرف فيها بانتقال حانوت بهاء الدين إلى حوزته فتضاعفت غبطته حتى استحوذت على جوارحه، وأسكرته سكرة السرور،.. وفتح هاتيك النافذة التي كان يرى منها الشارع رأي عين، فقال وهو يطل برأسه متأثراً بما عايشه في أبي تيج من مذاق مر وحال عسير :
- يالجمال المدينة ! (ثم في أسف) كان ينبغي ألا نتركها أبداً !
وكان عصياً على الشاب - وهو حديث عهد بعودته - أن ينفصل عن حال الصعيد الذي تشربته حواسه طوال الأعوام الثلاثة فغدا جزءاً لا ينفصل من تكوينه وشخصيته،.. وكانت هدى مسرورة مرتين : الأولى لعودته، والثانية لعدم وقوع هذا الهاجس الذي يقضي بارتباطه بغيرها هناك، فعدت ما جرى دليلاً أوثق على استمساكه بها رغم المغريات.. وقالت الفتاة تحاول أن تصرف عن الجلسة أسباب القتامة :
- وهلا أمكنك أن تعدد أشياءً ثلاثة استرعت انتباهك في أبي تيج؟
وقال وهو يلحظ هذه المساحة الجديدة التي أضيفت إلى الحانوت القديم فأمسى الحانوتان كالكيان الجديد، أكثر رحابة :
- إن لهجتهم ليست واحدة تختلف من قرية لأخرى، وهم لا يحفلون بالصيحات أو الموضة التي تهتمين بها، وأحد لا ينام هناك دون عشاء مثلما يتفق أن يقع هذا بالإسكندرية في مرات !
ثم وهو يحني رأسه :
- تبدو الإسكندرية أسبق من أسيوط بأشواط من جهة التقدم في المرافق والخدمات، إن هذا التناقض لهو من دواعي الإشفاق في هذا العالم!
وساد صمت بين المتحاورين، فقال عبد الغني :
- إن صابرين حدثتني عن عملك بالمدرسة الإبتدائية بالإبراهيمية،.. هلا صحبتني إلى هناك يوماً؟
ومر في خيالها صورة فضيل مجتمعاً إلى عبد الغني فلم تحفل كثيراً بما قد يفضي إليه الاقتراح العابر، وحاولت أن تصده ولكن إصراره على رؤية الحي الثري - ثقافياً وديمغورافياً - قد غلب إرادتها في منعه، وصحبت هدى الشاب إلى المدرسة فدلفت أولاً دونه إلى حجرة المدير حيث كان صاحبها (فضيل) متطلعاً من النافذة إلى رمال الفناء المصفرة والأطفال يلهون على كثب منه فيتخذون من جذعي شجرتين عارضتين لمرمى مشترك، وكان ثمة طفلان يتشاجران مع ثالث فوقعت لهما الغلبة، إنه ينادي كمن يروم أن يفض شغباً واقعاً فيقول :"أتركاه وشأنه،.. أيها الأطفال المشاغبون.. يا من تختبئون في ظلال الأشجار.."، ولاحظ اقتراب مجيء الفتاة فاضطرب لمقدمها وعاد يتصنع صورة من يقلب الأوراق - كالمنشغل في الأمر المهم - على مكتبه، ولبس طربوشه - كالمتزين - بينما طرقت الفتاة على الباب فقالت :
- أهلاً سيادة المدير.. (ثم في تأثر وهي تلحظ هيئته النحيلة..) ولقد أثمرت الحمية حقاً !
وقال فضيل منتشياً في صوت لا يخلو من أسى، كأنه العزاء بعد طول انتظار :
- ليت أني أجد في عالمي من يقدر هذا الجهد والحرمان !
وقالت في صوت وسيط بين حرارة الاستقبال ورغبة الانتقال إلى صوب الغرض الذي جاءت من أجله :
- سوف تجد حتماً من يقدر جهدك ما دامت إرادتك لم تفتر !
وظن الرجل أن في حديثها إشارة إلى غرض يساوره ولم تقصده، فقال في سرور حقيقي :
- إن هذا لطف منك سابغ !
وخالت هدى أن الأمور قد تهيأت لمطلبها الرئيس فقالت في شيء من رسمية واضحة :
- سيادة المدير،.. أود أن أعرفك بعبد الغني الذي حدثتك عنه لماماً في أحوال شتى،.. إنه بدوره يود أن يتعرف إلى حقائق المكان الذي أعمل به !
وهنا تقدم عبد الغني عابراً خطاً يفصل الحجرة عما سواها خافضاً رأسه الذي يفوق النهاية العلوية لمساحة الباب بنحو شبر، وسرعان ما استبدل فضيل بوجه سمح وجهاً أكثر امتلائاً بالغضب، فكأنما انتقل من حال إلى حال، قال هامساً وهو يأخذ ينهض من كرسيه في شيء من استخفاف يحمل بغضاً :
- حقاً؟ ألم يمت من الملاريا في الصعيد؟ آه.. هكذا إذن.. (ثم وهو يتطلع إلى صورته المديدة في حسد فيعلو صوته حتى يبلغ حداً مسموعاً..) من العجائب أن يشتغل المرء وفي زمان القنابل الذرية بمهنة تقوم على الجريد،.. ألا تكون أقرب إلى العصر لو انصرفت عن هذه المهام اليدوية البسيطة إلى غيرها مما هو أنفع؟!
وقال عبد الغني في حسن نية :
- كانت هذه ضرورات الغربة، وأما اليوم فقد صرت مالكاً لحانوتين ! (ثم وهو يتطلع إلى فناء المدرسة ذي الرمال والخضرة..) أجمل بها من مدرسة رائقة حقاً !
قال فضيل :
- أجل.. تحسن حال التعليم كثيراً في مصر بعد مجيء الإنجليز كماً وكيفاً، أعني من جهة الميزانية والعدد !
ووجد عبد الغني نفسه مدفوعاً إلى القول :
- لا أخال أن هذا التحسن كان وراءه - حقاً وصدقاً - هدف النهوض بالدولة المصرية، بل إن وراءه تخريج موظفين طيعين للاحتلال البريطاني يصيرون تحت رئاسة إنجليزية، ولأجل هذا كان التعليم في وقت ما تابعاً لوزارة الداخلية ! وقد وجد البريطانيون أنفسهم في مأزق لأن هذا التطور في التعليم أفضى إلى انفتاح الآفاق كيما يطالب الناس بحقوقهم في الاستقلال متأثرين بما نادى به أمثال جمال الدين الأفغاني، وعبد الله النديم، ويعقوب صنوع، وغيرهم! إن شعوباً متعلمة أعرف بحقوقها من شعوب يسود فيها الجهل والجهالة.
وقال فضيل الذي لم يرقه حديث الشاب :
- وآفتنا نحن - المصريين - أننا نحسن الظن بأنفسنا أكثر مما يجب، ونتخيل ما ليس لنا من الميزات،.. بربك.. كيف تتصور حال البلاد إذا هي سلمت لحكم ذاتي مستقل ؟! إني أكاد أبصر صوراً مؤسفة من سوء الإدارة في شتى المجالات !
وقال عبد الغني بعد أن شنَّع عليه حديثه :
- علينا أن نحذو حذو الإنجليز في ميدان الحضارة دون أن ندع لبنادقهم وضعاً مسلطاً على رقابنا !
وقال فضيل :
- آه.. كمن يريد أن يجمع بين المستحيلين، إنه لتصور حالم هذا الذي تنعم به، علاوة على أنه يناقض طبائع الأشياء !
وقالت هدى وهي تشير إلى عبد الغني بينما لا تزال ناظرة إلى فضيل، محاولة أن تنهي بين الرجلين دواعي خلاف :
هلا أمكنني أن أصطحبه (تريد عبد الغني) إلى الفصل كي يرى الأطفال هناك رؤية المشاهد؟!
روايات
ووجد فضيل الفرصة سانحة كي يفرغ شحنة من بغضاء تجاه منافسه فقال:إن هذا ممنوع،.. إني عظيم الأسف، آنسة هدى ! ولا أتصور أن تستحيل فصول مؤسسة تعليمية إلى مزار لكل غريب !
وولاهما فضيل ظهره ثم عاد يجلس إلى مكتبه متظاهراً بمواصلة ما قد بدأ، وعاد يخلع طربوشه خائباً كأنما لم يعد له من داعٍ للإبقاء عليه بعد أن وضح المرام، وكان يرى فيه (الطربوش) لباساً تركياً يقمع الرأس، ويحجب الفكر تحت ضباب من البخر والحرارة، فلا يرتديه إلا ابتغاء أن تكتمل صورته الرسمية.. ودار بينهما - هدى وعبد الغني - حديث احتوى على المواساة والود لم يحتمل أن يشهده فضيل الذي أغلق بدوره بابه أمام المتحدثين، وصعدت الفتاة الدرج حين حدث أن رن الجرس - صعدت في أسف، بينما انسحب عبد الغني - كالمتواري الغريب - فأبصر في مسيره فرقة موسيقى من التلامذة كانت تؤدي لحن النشيد الوطني بآلات الهارمونيكا، والماريمبا، والأكورديون، واقترب عبد الغني من عازف الهارمونيكا - وكان على الخلاف من زميليه خارج حجرة الموسيقى - فسأله بعد أن جثا إلى مستواه ودون أن تلحظ أستاذته :
- يالروعة العزف ! (وهنا تظاهر بالتصفيق..) هلا أمكنك أن تدلني على الأستاذة هدى ؟!
وصحبه الصغير إلى الفصل فجعل يحتذي مساره كالمتسلل، واجتاز حجرة فضيل يخفق قلبه بنشوة السارق الذي جاز نقطة تفتيش من الأمن، وجعل يتصنت إلى صوتها الذي يقول :
- مرحباً بكم،.. إنه ليوم جميل ! تذكروا أن تنظفوا أيديكم جيداً إذا هي لامست أسطحاً متربة،.. طلباً للسلامة واتقاءً للجوائح !
وقالت طفلة شامية :
كيف يحوي اليوم الجميل على ذكر للجوائح؟!
أنتِ مشاغبة كعادتك !
وتطلع عبد الغني إلى صورتها بين الأطفال فحل في نفسه ود، وانشغل بها عن نفسه وعن محيطه انشغالاً فيه سلام، وسأله طفل الهارمونيكا كأنه صوت المنبه يوقظ غافلاً في منتصف فجر :
- وهل سندلف إلى الفصل !
وقال وهو ينظر إليها مرة أخيرة :
أخال أن هذا يكفي ! (ثم وهو يعود إلى حالته الطبيعية..) وكيف تعزف على الهارمونيكا؟
أنت تملأ فمك بالهواء بينما تعلو الموسيقات من الجانب الآخر !
ثم وهو يسير رفقة الطفل في ردهة بين الفصول :
سمعتك تعزف لحناً ما أشبهه بالنشيد المصري كأنك الموسيقار الإيطالي العالمي فيردي (الملحن الحقيقي للنشيد).. هل هذا حق؟
أجل إنه كذلك،.. من العجيب أن تستحيل الأنفاس أنغاماً.
وكانت الفتاة قد رأت ظلاً للشاب ينصرف وما لبث أن أفصح لها الأطفال عن هذا المراقب الذي رحل، فابتسمت، وعادت إلى حالتها الجادة حين أمكست بالطبشورة منتشية بما وقع،.. وحين آنت الظهيرة كان عبد الغني واقفاً لدى باب المدرسة منتظراً خروج الفتاة، وطالت مدة انتظاره فانتقل إلى التفكير في نقاشه مع فضيل شاغلاً فراغاً ما، وقال في نفسه :"آه.. كم يبدو الرجل فاسد الطباع حين يتحدث عن فضائل محتل ! وأما عيناه فتنمان عن حب غائر مطمور ! وقد أظهر صلفاً حين منعني من رؤية الأطفال !"، وتذكر هذه الفكرة التي لمعت كبارقة أمل في ذهن عدد من المفكرين من أمثال : مصطفى كامل ويعقوب آرتين ومحمد عبده وجورجي زيدان بإنشاء جامعة أهلية تجمع أبناء الفقراء والأغنياء على السواء، وكيف صارت الفكرة بذرة جامعة حكومية هي جامعة القاهرة في 1908م، ثم تذكر كيف صار التعليم - فيما خلا نطاق بعض هذه الإشراقات والمبادرات - نشاطاً لا يقدم عليه إلا كل موفور ومقتدر.. ولكنه حين استدار - مولياً باب المدرسة ظهره - رأى شاباً يقذف بالقاذورات على الأرض، فعادت تتردد أصداء الحديث الذي استهجنه في وعيه : " كيف تتصور حال البلاد إذا هي سلمت لحكم ذاتي مستقل ؟! إني أكاد أبصر صوراً مؤسفة من سوء الإدارة في شتى المجالات !" كأنما قد اكتسبت بعض الأصداء الجديدة التي أزالت عنها شيئاً مما قد غشاه من النفور حين سماعه لها أولاً، وتولد في نفسه صراع احتوته بواطنه رغم وقفته التي كانت لا تظهر إلا صمتاً، وتذكر يعقوب - الرجل البريطاني الذي قابله في قطار العودة - فصبت الخواطر ناراً على موقفه المستقر من الإنجليز وإن ظل في الأخير مستمسكاً بما جُبل عليه من كراهيتهم.. وأحس يداً تربت على كتفه فانقطع عليها حبل أفكاره ولما استدار إلى صاحبها ألفاها يد هدى، وقالت :
- وكيف أقنعت طفلاً بأن يدلك على موقعي؟!
وقال وهو يأخذ يمشي فتمضي الفتاة إلى جواره بالحارة الضيقة :
- إنها قصة طويلة، أبصرته يعزف الهارمونيكا، قريباً من حجرة الموسيقى كالذي ضل طريقه.. إن الأطفال - شأنهم شأن البقية من البشر - يحبون أن يعامولوا بندية لا تخلو من لطف !
ثم وهو يعبر بين رجلين يونانيين فيطمئن إلى عبور الفتاة من بعده :
- إنكِ، وبالمثل، إن استصغرت عقولهم (الأطفال) وجدتهم عنك في شغل ساهين!
Top comments (0)